31 March, 2008

أثر ترجمه بعض المخطوطات الفارسية في الثقافة الاسلامية


اعداد
الدكتور عبد الفتاح غنيمة
ربما كانت الحضارة الفارسية من ناحية العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفة أضعف أثرا في حياة المسلمين ومن تأثروا بهم من الحضارة اليونانية , أو ربما كان الذي وصل إلينا من نتائج الحضارة اليونانية أكثر , ذلك بأن مخطوطات علوم فارس في التنجيم والهندسة والجغرافيا قد ضاعت عند غزو الإسكندر لبلادهم وتلفت معظم خزائن كتبهم , وإن كانت الدولة الساسانية قد أعادت إلى الفرس بعض أمجادهم العلمية . وفي هذا المعنى يقول حمزة الأصفهاني" : وذلك أن الإسكندر لما استولى على أرض فارس وقهر أهلها وأحرق من كتبهم ما نالته يده , ثم قتل العلماء والحكماء وما كان يحفظ عليهم في أثناء علومهم وتواريخهم حتى أتى على عامتهم , وهذا بعد أن نقل ما احتاج إليه من علومهم إلى لسان اليونانيين " , ومع ذلك فقد وصل إلينا كثير من آثارهم التي ترجمت في عهد العباسيين , والمنصور والرشيد , كما اهتم المأمون بترجمة الكتب الفارسية , فكلف سهل بن هارون بهذه المهمة بيد أن قلة ما أنتج الفرس من العلوم بالقياس للفيض العميم الذي جاءنا من قبل اليونان لا يقدح في المجهود العظيم الذي قام به الفرس , والذي أثر في حضارة الإسلام تأثيرا إن لم يكن مباشرا , فهو تأثير غير مباشر على الأقل , فالعلوم الإسلامية وجدت في عقلية الفرس أرضا خصبة للنمو والنضوج حتى أصبح الفرس سادة العلوم في قلب الدولة الإسلامية , وتتمثل هذه السيادة نثرا في اسلوب ابن المقفع الرائع فيما ألف وفيما ترجم , وتظهر كذلك في حكمتها التي لا تخرج إلا عن عقلية جبارة . وتتمث نحوا وصرفا في سيبويه (ت 180 هــــــــ \ 796 م ) .والكسائي (ت 189 هــــــــ \ 804 م ) والفراء (ت 207 هــــــ \ 822 م ) وتتمثل شعرا في شاهنامة الفردوسي التي عارض بها إلياذة هوميرس , وفي رباعيات عمر الخيام (ت 517 هـــــــــ \ 1123 م ) وفي ديوان الصادح والباغم لابن الهبارية وتتمثل في كتاب ألف ليلة وليلة , وفلسفة وطب ابن سينا (ت 428 هـــــ \ 1036 م ) , وفي فقه أبي حنيفة النعمان , وهي آثار لا يزال العالم الشرقي والغربي يتأثر بكثير منها إلى اليوم .
لقد ظهرت العقلية الفارسية حتى في العلوم الخالصة للعرب , وهي علوم القرآن والسنة , فقد نبغ فيها الموالي وهم من العجم , ولذا نذكر للقارئ نصا عن بن خلدون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم _ " من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم , ولا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر , وأن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته "
مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي , والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة , وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه , كان الرجال ينقلوها في صدورهم , وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع أصحابه , والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة .. ثم احتيج إلى معرفة وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونوه , ثم كثر استخرج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة , وفسد مع ذلك اللسان فأصبح إلى وضع القوانين النحوية , وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الإستنباطات والإستخراج والتنظير والقياس , واحتاجت إلى علوم أخرى , وهي وسائل لها من معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الإستنباط والقياس والبعد عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد , فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى تعليم , فاندمجت في جملة الصنائع , وقد كنا قدمنا إلى الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها , فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها , والحضر لذلك العهد هم الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف , لأنهم أقوم على ذلك الحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس , فكان صاحب صناعة النحو سيبوية والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم , وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربي والمخالطة وصيروة قوانين وفقا لمن بعدهم , وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام وأكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربي , وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يعرف , وكذا حملة الكلام , وكذا أكثر المفسرين . ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم , ظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلق العلم بكتاب السماء لناله قوم من أهل الفرس ) .. وأما العلم العلوم العقلية أيضا , فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه , واستقر العلم كله صناعة , فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها , فلم يحملها إلا المعربون من المعجم , شأن الصنائع كما قلنا أولا , فلم يزل ذلك في الأمصار مادامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخرسان وما وراء النهر فلما خرجت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي نصر الله في حصول العلم والصنائع , ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة , واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة والأوفر اليوم في الحضارة من مصر , فهي أم العالم إيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع "
ألف ليلة وليلة
أهم المخطوطات المترجمة عن الفارسية هو مخطوط ألف ليلة وليلة "هزر أفسان" وذلك لأن أثر المخطوط في الأدب العربي لايزال ملحوظا منذ أجيال بعيدة وقد ذكر صاحب الفهرست عن هذا مايلي : مخطوط هزار أفسان , ومعناه ألف خرافة , وكان السبب في ذلك أن ملكا من ملوكهم (الفرس) كان إذا تزوج إمرأة وبات معها ليلة قتلها من الغد , فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لهم علم ودراية يقال لها شهرزاد , فلما حصلت معه ابتدأت تخرفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل بما يحمل الملك على استقبائها ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث , إلى أن أتى عليها ألف ليلة ومال إليها واستبقاها , وقد قيل إن هذا المخطوط ألف لحماني ابنة بهمن وجاء وافيه بخير غير هذا , والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر , وكان له قوم يضحكونه , ويخرفونه , لايريد بذلك اللذة , وإنما كان يريد الحفظ والحرص , أو استعمل لذلك بعده الملوك مخطوط هزار أفسان , ويحتوي على ألف ليلة وعلى دون المائتي سمر لأن السمر بما حدث به في عدة ليال , وقد رأيته بتمامة دفعات , وهو بالحقيقة مخطوط غث بارد الحديث . قلل محمد بن اسحاق : ابتدأ أبو عبدالله محمد بت عبدوس الجهشياري صاحب مخطوط الوزراء بتأليف مخطوط اختار فيه ألف سمر من أسماء العرب والعجم والروم وغيرهم , وكل جزء قائم بذاته , لايتعلق بغيره , وأحضر المسامرين , فأخذ عنهم أحسن مايعرفون ويحسنون , واختار من المخطوطات المصنفة في السمار والخرافات ما يحلو لنفسه وكان فاصلا فاجتمع له من ذلك أربعمائة وثمانون ليلة كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة وأقل أو أكثر , ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمة ألف سمر ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب أخي الشافعي .
وقد بدأ المستشرقون الأوروبيون في بحث أصل هذا المخطوط بحثا جديا منذ بداية القرن التاسع عشر , ويدور هذا البحث حول موضوعين , أولهما معرفة ما إذا كان واضع المخطوط واحدا أم أكثر , والثاني معرفة العناصر التي تداخلت في إنشاء القصص الواردة في هذا المخطوط , أما في الموضوع الأول . فالرأي فيه مختلف عليه , إذا يرى وليم لين أن المخطوط بأكمله لمؤلف واحد ويى سلفستر دي ساسي أنه لا يمكن أن يكون من صنع مؤلف واحد , أما في الموضع الثاني فقد اختلف الباحثون حول العتاصر التي أشهمت في تكوين المخطوط وقد نشأ هذا الخلاف حول تفسير نص أورده المسعودي , وهو في صدد كلامه عن أخبار شداد بن عاد , ومدينة إرم ذات العماد قال " إن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة نظمها من تقرب من الفارسية والهندية والرومية , مثل كتاب هزار أفسان , والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة , وفي روايتين آخرتين ألف ليلة وليلة ) .
وقد استنتج فون هامر أن المخطوط مكون من عدة عناصر أجنبية , وأيد هذا الرأي الكثير من الباحثين , منهم أوسترب الذي قال بوجود ثلاث طبقات فارسية , تضمنت مخطوط هزار أفسان القديم , ثم طبقة بغدادية ثم طبقة مصرية ويرى هذا الرأي نلودكة وشوفان وأحمد حسن الزيات . أما دى ساسي فقد أنكر وجود عناصر هندية أو فارسية كما قال المسعودي , وأن الفقرة الواردة في كتابه مدسوسة عليه.
وفي رأي بعض النقاد أن نص المسعودي , لايقطع بوجود طبقات في الكتب , إذ أن قوله في أخبار "شداد" وأن سبيلها سبيل المخطوطات المنقولة إلينا والمترجمة الفارسية والهندية والرومية مثل مخطوط هزار أفسان هذا النص لايفيد قطعا أن المخطوط به هذه العناصر كلها , وإنما هو يضرب المثل بالكتب الأخرى المترجمة إما من الفارسية وإما من الهندية وإما من الرومية ومنها هزار أفسان , وليس ضروريا أن تجتمع كل هذه العناصر في المخطوط المذكور . كل مايفيد النص أن المخطوط به عنصر أجنبي على نحو ما . وأقرب الروايات التاريخية إلى التصديق رواية محمد بن إسحاق التي تقول بأن الجهشياري هو واضع كتاب ألف ليلة وليلة , اختاره من أسمار العرب والعجم والروم , وإنه لم يتم منه إلا أربعمائة ليلة ثم مات , والظاهر أن نفرا ممن جاءوا بعد الجهشياري بزمن متأخر أعاد كتابة ما ألفه الجهشياري بلغة عامية ثم أتمه ألى ألف ليلة ثم زاد ليلة بعد الألف . ووجود العناصر الأجنبية في الكتاب لايدل ألا على المادة التي ألف منها , أما بالنسبة لمن أتم الكتاب , فقد يكون فارسيا أو مصريا , وإن كانت اللهجة التي كتب بها تقطع بأنه مصري , لأن هذه اللهجة , وهذا الأسلوب المتلبس بهما الكتاب مما لايرى في غير مصر .
وليس في رواية بن اسحاق ولا في رواية غيره ما يدل على أن من أتم تأليف المخطوط أكثر من واحد , وإنما جمعه من طائفة من مختارات الثقافة الأجنبية , ولاشك أن في المخطوط أثرا فارسيا تدل عليه الأسماء الفارسية التي غض بها كشهريار أو شهرزاد أو أصل هندي دليلة تشابه بعض حكاياته بحكايات كليلة ودمنة , كقصة الحمار والثور التي وردت في مقدمة المخطوط , والأصل المصري يرجع إلى أسلوب المخطوط القريب من اللغة العامية المصرية .
يقول أستاذنا الراحل الدكتور طه حسين رحمه الله إن كتاب ألف ليلة وليلة الذي خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب , وقرونا طوال قد لايكون كتاب متعة أولهو وتسلية , لكن الغرب نظر إليه على أنه خليق بعد ذلك أن يكون موضوعا للبحث المنتج والدرس الخصب .
إن ليلي ألف ليلة وليلة تقع على بلية من أقبح البلايا المعاصرة ألا وهي بغي السلطان وتصرفه في رعيته تصرف المالك في ما يملك , وإنه إذا ما كان الحاكم مستبدا وهناك شعور بالظلم , فلابد من متنفس للناس منه , ولابد من نقد ظاهر إن توافرت الجرأة ونقد خفي إذا ماخشى من السلطان كما فعل ابن المقفع في كتابه كليلة ودمته الذي اشتمل على غرضين : سياسي وأدبي , فأما السياسي فأنه داع إلى العدل وزاجر عن البغي وفيه بيان سلوك الملوك في آدابهم وتدبيرهم لأمور ممالكهم وما يجب عليهم من العدول عن كذا وكذا وإن الفاضل العاقل منهم حقيقة فإن يعتبر بأقوال الحكماء ولايقرب إليه أهل النميمة والفساد قبحهم الله .
تحرير الطالبين: شريف حمدي محمود الخلفاوي
عمرو عبد الحليم ناصف

No comments: